You are on page 1of 7

‫دراسة فكرية‪:‬التوحيدي األديب والمفكر في ميزان‬

‫االلتزام والتهميش‬
‫إعداد األستاذ ‪ :‬فتحي النصراوي‬

‫توطئة ‪:‬‬
‫أديب من أدباء المجالس األدبية ومف ّكر من مف ّكري الحلقات العلمية في القرن الرّ ابع للهجرة حاز شهرة‬
‫واسعة في عصر كسدت فيه صناعة األدب و امتُهنت أيّما امتهان مكانة األديب ‪ ،‬كما وقع اإلزراء بمكانة العلم‬
‫والعلماء ‪ .‬هوّ ذاك التّوحيدي األديب المتفلسف أو الفيلسوف المتأدّب كما وصلنا عنه من أخبار أو كما قرأناه‬
‫في إمتاعه أو مقابساته أو إشاراته اإللهية أو رسائله‪ ...‬وفي كتب أخرى كتبها لألسف لم يصلنا منها إالّ‬
‫القليل النّادر ‪ .‬فأمام انحسار المدّ العروبي للدّولة اإلسالميّة على عهد بني العبّاس وانتقالها إلى عهدة‬
‫عوبي الذي ترافق مع انحسار دور الرّ يادة للعنصر العربي في مقابل تم ّكن‬ ‫ّ‬ ‫البويهيين واستفحال المدّ ال ّ‬
‫ش‬
‫الموالي والمماليك( الفرس واألتراك‪ )..‬من السيطرة على مقدّرات الدّولة وشؤون اإلدارة والجيش ‪ .‬وما نتج‬
‫عن ذلك من هدر لألموال وظلم سياسي واجتماعي وإفساد لمصالح العامّة وقطع لألرزاق ‪ ،‬وتعطيل للفتوحات‬
‫الزندقة" وتكالب‬‫وإطاحة بالرّ جاالت الصّالحة( وزراء‪،‬رجال دين ‪ ،‬علماء‪ ،‬أدباء‪ )..‬أو رميها بتهمة العصر" ّ‬
‫أغلب الخاصّة على السّلطة وما نتج عن ذلك من صراع سياسي ومذهبي وامتهان ألئمّة العقل والعلم واألدب‬
‫‪ .‬ومحاباة لبعضهم المتقرّ ب المتمسّح باألعتاب على حساب بعضهم المهمّش الملتزم المتعالي من قبل بعض‬
‫السّاسة وأرباب النّفوذ والمال ‪ ،‬برز التّوحيدي من خالل كتابه" اإلمتاع والمؤانسة" على األق ّل الذي‬
‫استكتبه إيّاه أحد الوزراء العارفين بعلوم اللّغة والمتنفذين في بالط بني بويه ‪ ،‬أديبا حاذقا لصناعة األدب‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬


‫ومف ّكرا عارفا بشؤون الفكر وشواغل الخاصّة وهموم العامّة على حدّ السّواء ‪ .‬فكان كتابه شهادة على‬
‫عصره بك ّل ارهاصاته الفكريّة والثّقافيّة وتقلّباته السّياسيّة واإلجتماعيّة واألخالقيّة‬

‫‪ 1‬في طبيعة العصر والنّاس ‪:‬‬


‫ّبقي ‪:‬‬
‫‪ ‬اإلستغالل الط‬
‫ضرائب وسوء التّصرّ ف في أموال الجباية والمكوس‬ ‫نتج هذا اإلستغالل عن فساد اإلدارة وإعنات النّاس بال ّ‬
‫شعب ومنها‪:‬‬ ‫وصرفها في غير مصارفها العادلة ‪ ":‬وجود طبقات تستأثر بالثّروة دون غيرها من عامّة ال ّ‬
‫ّام‪:‬‬
‫‪ ‬ظلم طبقة الحك‬
‫سكوتهم على أغلب المظالم التّي كانت تسلط على عاتق الرعيّة (أصحاب الحرف والفالّحين ‪ )..‬قول‬
‫التّوحيدي {" أرزاقنا منتهبة‪..‬وعيوننا س ّخية وصدورنا مغيظة وبليّتنا متّصلة وفرحنا معدوم "} صص ‪/3‬‬
‫‪88‬‬
‫ّة بالضرائب والمكوس ‪.‬‬
‫‪ ‬إثقال كاهل الرعي‬
‫اتّخاذ األمراء مال الدّولة ألنفسهم وصرفه في ملذاّتهم الخاصّة(بناء القصور الفاخرة‪ /‬مجالس األنس‬
‫صة‪/‬اللهو والمجون والخالعة ‪ /‬المآكل الفاخرة‪/‬البذخ‪.)..‬نموذج ذلك ّ‬
‫معز الدولة أمير العراق‪ /‬محمّد ابن‬ ‫الخا ّ‬
‫علي ابن الفرات وزراء من القرن الرّ ابع ‪.‬‬
‫بقيّة‪ّ /‬‬
‫‪ ‬استقواء مالّك األرض‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫اقتطاع كبار مالّك األرض في حاالت الفوضى السّياسيّة من ملكيّات الفالّحين الصّغار وإلحاقها بأمالكهم‬
‫وتحويل أصحابها إلى أجراء أحيانا من دون أجر ‪{".‬وتوفية العمّال أجورهم قوام الدَيْن ‪/‬البصائرصص‪}163‬‬
‫"‬
‫ّر‪:‬‬
‫ّجا‬
‫‪ ‬استغالل طبقة الت‬
‫استغالل التّجار لغياب األمن واالستقرار السّياسي بإخفاء السّلع وبيعها مراكنة بأثمان باهظة وتلهفهم على‬
‫الرّ بح وجمع الثروة { وأمّا التّجار فكسب الدّوانيق سدّ بينهم وبين ك ّل مروءة ‪/‬رسالتان في الصداقة‬
‫والصّديق‪ "{/.}4..‬وأما ّ أصحاب األسواق فإنّا ال نعدم من أحدهم خلقا دقيقا و دينا رقيقا وحرصا مسرفا وأدبا‬
‫مختلفا ودناءة معلومة ومروءة معدومة ‪. }..‬‬
‫‪ ‬تفقير العاّ‬
‫مة وإذالل صغاراألدباء‪:‬‬
‫نتج ذلك عن تكدّس الثّروة عند القلّة المالكة للسّلطة واإلقتصاد وخاصة من فئة التّرك والفرس و غيرهم‪.‬‬
‫تسلّط العمّال والوالّة واستحواذهم على مقدّرات الرعيّة البائسة وتجويع األهالي وتضييق الخناق عليهم{‬
‫الطعام وتعذّر الكسب وغلبة الفقر وتهتّك صاحب العيال ‪/‬اإلمتاع‪/2:‬ص‪}26‬‬
‫ضجوا من غالء القوت وعوز ّ‬

‫تعطيل شرائح إجتماعية عريضة عن العمل وانكماشها عن اإلنتاج (إهمال األراضي المقتطعة من‬
‫أصحابها‪/‬تنفير أهل الصّنائع بفرض ال ّ‬
‫ضرائب المجحفة ‪...‬‬
‫امتهان صغار األدباء والكتّاب وتهميش دورهم وتجويعهم‪ ،‬قول التّوحيدي على لسان أحد الشعراء يصف‬
‫وضع الشعراء في القرن الرّابع فيقول‪:‬‬
‫إ ْذ بعتُ عرضي ّ‬
‫بالطعام‬ ‫سفل األنام‬
‫أصبحت من ُ‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬


‫حتّى أصبح الشاعر صنوان الكلب يتمسّح على األعتاب لينال درهما أو صحن حساء ‪.‬‬
‫شى الجوع في عصر التّوحيدي حتّى كنّاه النّاس بأبي ُ‬
‫عمرة فيقول التّوحيدي في هذا الصّدد‪:‬‬ ‫وقد تف ّ‬

‫عمرة في أغلب البيوت فنسج العنكبوت على ك ّل برمة ونبت العشب في ك ّل تنّور}اإلمتاع‪53/2‬‬
‫{ وح ّل أبو ُ‬

‫حتّى أقبل النّاس على عيش الكفاف والنّهب والسّلب وأكل النّخالة ‪.‬قول التّوحيدي في سياق حديثه البن‬
‫ّ‬
‫الشط فلمّا نزل الوزير ليركب صاحوا‬ ‫سعدان { سمعت بباب ّ‬
‫الطاق قوما يقولون‪ :‬اجتمع الناس اليوم على‬
‫الطعام وتعذّر الكسب وغلبة الفقر‪..‬وأنّه أجابهم مع قطوب الوجه وإظهار‬
‫وضجّوا وذكروا غالء القوت وعوز ّ‬
‫التبرّ م‪ " :‬بعد لم تأكلوا النّخالة "} اإلمتاع ‪26/2‬‬
‫ُ‬
‫ماقلت هذا‪...‬ولم أقابل عامّة جاهلة ضعيفة جائعة بمثل‬ ‫فأنكر ابن سعدان ما سمعه من أبي حيّان وقال‪{ :‬وهللا‬
‫هذه الكلمة الخشناء ‪}..‬اإلمتاع ‪26/2‬‬

‫‪ -2‬موقف أبي حياّن من الواقع اإلقتصادي والسّياسي واالجتماعي في عصره ‪:‬‬


‫كان موقفه من واقع اإلقتصاد في زمانه موقف رجل عاش الفقر والحرمان فوقف من هذا الواقع موقف النّاقد‬
‫أن التّفاوت في الثّروة دافع للصّراع بين الطبقات والتّطاحن بينها داعيا ضمنيّا إلى المساواة‬
‫المستنكر فرأى ّ‬
‫اإلقتصاديّة حتّى يتوفّر االستقرار اإلجتماعي واألمني فيقول{ لوال ثالث لم يقع حيف ولم يس ّل سيف‪ :‬لقمة‬
‫أسوغ من لقمة و وجه أصبح من وجه وسلك أنعم من سلك ‪}..‬اإلمتاع‪14/1/‬‬

‫‪2‬‬
‫شخصيّة " اإلرتزاق باألدب والتمعّش‬ ‫كان التّوحيدي يحكم على واقع عصره من منظوره الذّاتي وتجربته ال ّ‬
‫‪..‬أن عيب الغنى أنّه يوّ رث البالدة ‪،‬‬
‫الطبيعة ّ‬ ‫بالحيلة " ومن ذلك قوله { الحاجة تفتق الحيلة والحيلة تشحذ ّ‬
‫وفضيلة الفقر أنّه يبعث الحيلة ‪ }..‬اإلمتاع ‪86/1-28/3:‬‬
‫ديني متجنّبا اإلصطدام مباشرة باألسباب السّياسية‬
‫ّ‬ ‫ولكنّه كان يحاكم عصره في كثير من األحيان من منظور‬
‫الزمان قد استحال عن المعهود‪ ،‬وجفا عن القيام بوظائف الدّيانات وعادات أهل‬ ‫ألن ّ‬
‫فيقول في إمتاعه { ّ‬
‫المروءات ‪}..‬اإلمتاع ‪2/2‬‬
‫عاظ ومجاذيب وسيلتهم األدب وغايتهم اإلرتزاق بشتّى فنون المكر‬ ‫لذلك تحوّ ل األدباء إلى دجّالين وو ّ‬
‫شعوذة والحيلة ‪ {.‬مثال ذلك ما ذكر في مقامات بديع ّ‬
‫الزمان الهمذاني }‬ ‫وال ّ‬

‫‪ -3‬أثر الواقع على التوحيدي وأدبه ‪:‬‬


‫ّته ومواقفه‬ ‫‪ ° ‬أثر الواقع على نفسي‬
‫تأثّر التّوحيدي خاصّة – كما تأثّر أدباء عصره عامة – بهذا التّدهور اإلقتصادي فوصف كيف كان األدباء‬
‫والعلماء المف ّكرون يتجمّعون على أبواب الخلفاء واألمراء طلبا للرّ زق وكثر التّزاحم بينهم في جوّ تسوده‬
‫الدّسائس والمؤامرات ‪ ،‬والوشايات والتّملّق ‪.‬فيقول { والبليّة مضاعفة من جهة النّظراء في الصّناعة‬
‫وللحسد ثوران في نفوس هذه الجماعة وق ّل من يجهد جهده في التّقرّ ب إلى رئيس أو وزير إالّ جدّ في إبعاده‬
‫من مرامه ك ّل صغير وكبير ‪}..‬اإلمتاع ‪1/2‬‬
‫‪ ° ‬نقده لألدب واألدباء‬
‫انعكس هذا الوضع حسب التّوحيدي على مردود األدباء وحال األدب فغاب الذّوق الرفيع ورصانة األسلوب‬
‫ضراعة والصَّغار واإلستعطاف ومن ذلك قول‬‫وصدق العاطفة وغلب التّكلّف والمبالغة على أدبهم وصيغ ال ّ‬
‫التّوحيدي مخاطبا أبا الوفاء ‪ {:‬خلّصني أيّها الرّ جل من التّكفّف ‪ ،‬أنقذني من لبس الفقر ‪ ،‬أطلقني من قيد‬
‫شكر ‪..‬اكفني مؤونة الغداء والعشاء ‪}..‬اإلمتاع ‪227-226/3‬‬ ‫الضرّ ‪..‬اعتبدني بال ّ‬

‫_ يتعاطف التّوحيدي مع زمرة األدباء المرفوضين في بالط ابن سعدان ويلوم الوزير والحاشية المقرّ بة على‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬


‫صدّهم فيقول { يلقوْ ن الصدّ والحرمان والتّعاسة الدّائمة وغلق األبواب ‪ . }..‬فيواجه ابن سعدان بالتّصريح‬
‫طورا و بالتّلميح طورا آخرا { وال أدري كيف أستكفي هذه الجماعة حوله ‪. }..‬‬
‫_ مزجه في الحديث عن األدباء بالحديث عن نفسه ّ‬
‫ألن كليْهما صورة أو مرآة لآلخر فيقول { اليأس قد غلب‬
‫عليهم وضعفت منّتهم وعكس آمالهم ‪}..‬‬
‫_ تصنيفه إيّاهم بإسهاب والتّحكيم بينهم أحيانا فيقول { ومنهم من قعد به الدّهر لسنّه العالية ومنهم طائفة‬
‫أخرى قد تحلّقوا في بيوتهم_ استهزاؤه ببعضهم اآلخر واصفا إيّاهم بالتّكلّف ّ‬
‫والزندقة قائال { رفضوا الوقوف‬
‫ضلين سفّ التّراب ‪}..‬‬
‫على األبواب مف ّ‬

‫اإلقتصادي على التّوحيدي فقلّل هناء عيشه فكان رقيق الحال مشرّ د الفكر قلقا مشتّت البال ناكرا‬
‫ّ‬ ‫أثّر الوضع‬
‫حينا على أهل الحظوة من األدباء وسائر الخاصّة تحاملهم عليه وعلى غيره ساخطا عليهم مستنقصا من‬
‫شأنهم في أحايين أخرى مستفظعا تآمرهم وبيعهم لذممهم وخبث أفعالهم فيقول { وما يمرح فيه الجاهلون‬
‫والمنقوصون ومن ال يساوي منهم شراك نعله ‪}..‬مقدّمة المقابسات ص‪12:‬‬

‫‪3‬‬
‫شرف والجاه ولكن بقدر ما‬ ‫_ تكشف التّوحيدي في المرحلة أديبا مرتزقا يسعى للتمعّش باألدب أمال في نيل ال ّ‬
‫كان األمل عريضا كان اليأس كبيرا ‪ ،‬فسبّب له ذلك انفصاما فكريّا ونفورا من األدب واألدباء أحيانا ‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشك في ك ّل شيء ‪.‬قوله { والشك إذا عرض أرسى وأربض ‪ }..‬ث ّم إلى اإلحساس‬ ‫_ ُكفره باإلنسان قاده إلى‬
‫ضياع ثم إلى اإلنقطاع عن النّاس ث ّم إلى الفجيعة واإلحساس بالعدم ‪ .‬وخاصّة بعد أن فجع في‬‫بالغربة فال ّ‬
‫صديقه أبي الوفاء ‪.‬‬
‫لذلك لعن ّ‬
‫الزمان واسودّت الدّنيا في عينه ودفعه اليأس في فترة من فترات التّحسّر على فوات المأمول بعد‬
‫المأمول على إحراق كتبه ‪.‬‬
‫‪ ‬نقده السّياسي واإلجتماعي ‪:‬‬
‫{توزع إهتمامه بهذه المسائل تقريبا في ك ّل من اللّيلة ‪}..34/24/20/17/6 :‬‬
‫ّ‬
‫‪ ‬نقده السياسي ‪:‬‬
‫خ ّ‬
‫صص التوّ حيدي ثالث ليال من كتاب اإلمتاع لالهتمام بالسّياسة ومنها ليلة أفردت للبحث السّياسي المحض‬
‫فتميّز فيها بجرأة غير مسبوقة وأمانة عقليّة بالغة وذلك في عرضه وتفسيره الستئثار بني أميّة بالحكم دون‬
‫آل البيت مع ما بين األسرتين من تفاوت في الفضل والمروءة والدّين والصّالح ‪.‬فيقول مخاطبا الوزير ابن‬
‫سعدان { كيف تطاول هؤالء القوم إلى هذا األمر مع بعدهم من رحم رسول هللا وقرب بني هاشم منه‪..‬؟‪.‬‬
‫ّ‬
‫أنفسهمبذلك؟‪..‬إن عجبي من هذا ال ينقضي‪}...‬‬ ‫وكيف حدّثتهم‬
‫ولكنّه يردّ هذا األمر إلى سببين‪:‬‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬


‫_ تعصّب بني أميّة وظلمهم ومكرهم ‪.‬‬
‫_ الحتميّة التاريخيّة قوله{ أيّها الوزير إذا ُحقّق النّظر واستشفّ األصل لم يكن هذا عجبا ّ‬
‫فإن أعجاز األمور‬
‫تالية لصدورها واألسافل تالية ألعاليها وال يزال األمر خافيا حتّى ينكشف سببه فيزول التّعجّب منه ‪}...‬‬
‫_ ينقد التّوحيدي الصّراع الداّئر بين الوزراء والوالّة من أجل اإلستحواذ على السلطة وذلك من خالل نقله‬
‫لطبيعة الصراع الداّئر في بالط ابن سعدان بين ( مجموعة شاهويه وبين مجموعة األدباء الذين يبدي‬
‫تعاطفه معهم ) ‪.‬‬
‫كما يعمد في بعض السياقات األخرى إلى المفاضلة بين أبرز خلفاء بني العبّاس استجابة لسؤال الوزير ابن‬
‫سعدان فحظي جوابه باستحسان الوزير عندما قال { إن المنصور أنقذهم والمأمون أمجدهم والمعتصم‬
‫أنجدهم والمعتضد أقصدهم (أي أكثرهم اعتداال واستقامة )‪ }...‬فقال الوزير " والباقون؟‪ "..‬قال التوحيدي {‬
‫ليس فيهم بعد ذلك من يوحّد بالذّكر ألنّه في نقصه وزيادته مشاكل لغيره ‪ }..‬فقال الوزير" هلل درّ ك ‪"..‬‬

‫عاب التّوحيدي على ساسة القرن الرابع باستثناء عضد الدّولة تهاونهم وتقصيرهم في تسيير شؤون الدّولة‬
‫وتفويضهم األمر كلّه إلى وزرائهم وذاك شأن فخر الدّولة مع وزيره الصّاحب ابن عبّاد بقوله{ وقد أفسده‬
‫(أي ابن عباد) ثقة صاحبه به وتعويله عليه وقلّة سماعه من النّاصح فيه‪}..‬‬
‫نكرانه لما فعله عز الدّولة عندما زحف الروم على ثغور الدولة فلم يأبه بذلك وواصل رحلة صيده بقوله{‬
‫ولمّا اشتعلت الثّائرة وصاح النّاس النّفير النّفير ‪....‬أضرب السلطان عن هذا الحديث النهماكه في القصف‬
‫والعزف ‪ ،‬واعراضه عن المصالح الدينيّة والخيرات السّياسية ‪}..‬‬

‫‪4‬‬
‫تشهيره بما فعله ابن سعدان نفسه في الّليلة ‪ 34‬عندما استنجدت به الرعيّة طالبة القوت قوله { سمعت بباب‬
‫إن الملك ال يكون ملكا إالّ بالرّ عيّة}‬ ‫ّ‬
‫الطاق‪ }...‬فيبدي رأيه على لسان" أبي سليمان المنطقي " قائال { ّ‬

‫ولكن لم تكن مواقفه من ابن سعدان تخفي أحيانا مهادنة واضحة وخوفا وتقيّة ‪ ،‬نظرا لطبيعة العصر والحكم‬
‫آنذاك ‪.‬‬
‫_ تجنّبه اإلصطدام المباشر مع الوزير إبقاء على عالقته به وطمعا في نيل الحظوة ‪ .‬قوله { أخبرني فإنّي‬
‫مكسور ‪. }..‬‬
‫انزعاجه من سعي الخاصّة ( رجال الدّين‪ /‬الوزراء‪ /‬الوالّة‪ )...‬إلى تجهيل العامّة حتّى يسهل انقيادها قوله{‬
‫شغب ‪...‬وال َج َرم فإنّهم إذا‬ ‫رفّهوا السّفلة يعتادون الكسل والرّ احة ‪ ،‬وإذا جرّ ؤوهم فإنّهم يطلبون ال ّ‬
‫شرف وال ّ‬
‫سادوا في آخر األمر خرّ بوا بيوت العليّة أهل الفضائل } اإلمتاع ‪41/2‬‬
‫ّة في عصره ‪:‬‬
‫‪ ‬موقفه من الشعوبي‬
‫أمام تصارع األجناس الدّخيلة على الثّقافة العربيّة وإحساسها بهيمنة العنصر العربي على مختلف نواحي‬
‫الحياة السياسيّة واإلجتماعيةواإلقتصادية وأمام اإلختالفات العرقية والدينية بين هذه األجناس ‪ .‬قويت‬
‫النّزعة الشعوبيّة في القرن الرّ ابع واتّقدت جذوتها ‪.‬‬
‫زاد في هذا الصّراع الشعوبي إعتداد هذه األجناس بميزاتها وفضائلها( اعتزاز الفرس بالسّياسة واألدب‪،‬‬
‫شجاعة واإلقدام ‪/‬‬‫والعلوم والرّ سوم‪ /‬والرّ وم بالعلم والحكمة ‪/‬والهنود بالفكر والرويّة والسّحر‪ /‬والتّرك بال ّ‬
‫والزنوج بالصّبر والكدّ والفرح‪ /‬والعرب بالنّجدة والقرى والوفاء والجود والخطابة والبيان ‪. )..‬‬
‫ّ‬

‫لذلك انخرط التّوحيدي في هذا السّجال الحضاري من خالل ردّه على ما كتبه الجيهاني في كتاب له يذ ّم فيه‬
‫العرب ويحقّر من شأنهم بقوله (‪ ..‬يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيّات ويتعاورون‪...‬ويتهاجون‬
‫ويتفاحشون‪)"...‬‬

‫يرد على الجيهاني بالحجج التّالية ‪:‬‬


‫أن عادات العرب في المأكل والملبس والسلوك إنّما تعود لظروف حياتهم ( الوضع الصّحراوي القاسي)‬
‫ّ‬

‫يفنّد حجج الجيهاني فاعتبر أن العرب رغم جاهليّتهم لم يتزوّ جوا بالمحرم مثلما هوّ الّشأن عند الفرس الذّين‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬


‫امتثلوا ألمر نبيّهم "زارادشت " في ذلك ‪.‬‬
‫يرجع التّوحيدي تفوّ ق العنصر العربي في تفرّ ده بتقدمة النّبوة وغلبتها اعتماد العرب على ال ّ‬
‫شريعة التي‬
‫قامت عليها خالفتهم في سياستها الدينيّة والدّنيويّة { أنظر اإلمتاع ‪} 81/1:‬‬
‫الجيهاني‪ -‬وهو على وعي بالدّور المشبوه الذي لعبه الموالي في‬
‫ّ‬ ‫ويختم التّوحيدي موقفه من شعوبيّة‬
‫الجيهاني بعد هذا البيان والكشف واإليضاح باإلنصاف من‬
‫ّ‬ ‫المجتمع العربي منذ بداية بنائه‪ -‬بقوله ‪ {:‬فليسْح‬
‫القذع والسّفه اللذّين حشا بهما كتابه ‪ ،‬وليرفع نفسه عمّا يشين العقل ‪}..‬اإلمتاع ‪. 90-89/1‬‬
‫‪ ‬نقده اإلجتماعي‪:‬‬
‫نقده ألوضاع العامة وبعض عاداتهم وأفكارهم اإلجتماعية في ّ‬
‫الزواج والتّداوي واإليمان بالسّحر وال ّ‬
‫شعوذة‬
‫ضوى الواصل إلى األبدان هوّ سار في العقول‬ ‫‪..‬فنصح بتجنّب زواج األقارب قوله{ اغتربوا ال تضووا‪ّ ..‬‬
‫ألن ال ّ‬
‫‪ }..‬اإلمتاع ‪94/1‬‬
‫‪5‬‬
‫يكفّر التّوحيدي ك ّل معتقد في تشوّ فات المنجّمين وك ّل متعلم للتنجيم في قوله { ليس في ال ّ‬
‫شريعة حديث‬
‫المنجّم في تأثيرات الكواكب وحركات األفالك ‪ }..‬أنظر المقابسات صص ‪62‬‬
‫شعر‪...‬وما أرى ذلك مع‬ ‫ذكي حسن ال ّ‬
‫ّ‬ ‫نقده لبخل العامّة والخاصّة على حدّ السّواء قوله في مسكويه { فهو‬
‫كلفه بالكيمياء ‪ ،‬وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السّلطان واحتراقه في البخل بالدّانق والقيراط‬
‫والكسرة والخرقة ‪}..‬‬
‫نقده في ليال عديدة وخاصّ في اللّيلة ‪17‬من األثر لهمجية العامّة وتكالبها على المصالح المادّيّة وتعاورها‬
‫في سبيل الرزق فيقول { همج رعاع وأوباش ‪. }..‬‬
‫ق هوّ الذي ينخرط في مشاغل البسطاء ويفهم أحزانهم‬ ‫وهذا ما حدّ من موضوعية فكره وأدبه ّ‬
‫ألن األديب الح ّ‬
‫ولكن ذلك ال يمكن أن ِيؤاخذ عليه التّوحيدي‬
‫ّ‬ ‫وينقل آمالهم و أفراحهم و همومهم برحابة صدر وطيب خاطر ‪.‬‬
‫هي تجربة إنسان مبدع من القرن الرّ ابع للهجرة تميز فيها‬ ‫كثيرا ّ‬
‫ألن خالصة أدبه وفكره وتجربته في الحياة ّ‬
‫األدب بمقتضى قاعدة معيّنة وهي أن يقع استكتابه ويكون حكرا على فئة الخاصّة ‪ .‬لذلك بقي ما وصلنا من‬
‫كتبه حجة دامغة على أفول نجم الثقافة العربية كما بقي شهادة تاريخية على طبيعة العصر والنّاس في واقع‬
‫التّوحيدي ‪.‬‬

‫إفادات أسلوبية‬
‫‪ ‬أسلوبه األدبي‪:‬‬
‫_ إكثاره من الجمل اإلسميّة { الكالم ذو جيشان والصّدر ذو غليان ‪}...‬‬
‫_ الجمل الفعلية البسيطة ‪ :‬ملمح من مالمح الرّ صانة في األدب‬
‫_ مزج الحكمة باألدب { الدّنيا لذات معدودة فمنها لذّة ساعة ولذّة يوم ‪}..‬‬
‫_ أسلوب األمر في مخاطبة األمير" أسلوب سلطة األدب على السلطة السّياسية‬
‫_ اإلكثار من اإلستفهام اإلنكاري" أسلوب الحيرة الفكريّة واألدب الملتزم { أم كيف الصّبر والبالء ممدود أم‬
‫ّ‬
‫والطريق مسدود ؟‪}..‬‬ ‫كيف التّوجه‬
‫_ المساواة بين اللّفظ والمعنى ‪:‬أسلوب رصانة األدب وحذق الصّناعة فيه { ال منفذ إالّ بهداية هللا و ال نصر‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬


‫شيطان فمن سكر لم يفق إال ّ‬
‫إالّ بنصر هللا ‪}..‬‬
‫_ أسلوب اإليجاز ‪ :‬ملمح من مالمح جودة الصّناعة وبالغة األدب { الدّنيا خمر ال ّ‬
‫في مسكن النّادمين ‪}..‬‬
‫معان كثيرة بألفاظ قليلة " بالغة اإليجاز"‬
‫ِ‬ ‫التّعبير عن‬
‫_ استعماله إليجاز الحذف‬
‫_ اإلطناب { أدام هللا سعادته ‪ /‬جعل هللا أقدار دهرك جارية على تح ّكم آمالك ‪}..‬‬
‫_ التكثيف من المحسنات البديعية ‪:‬‬
‫‪ °‬السجع والجناس‪ { :‬ض ّم نشرها ‪ ،‬لُ ّم شملها بتقويم أعوجها ‪ }..‬ملمح من مالمح ثقافة العصر ( مدرسة‬
‫النّقد البالغي ) ‪.‬‬
‫‪ °‬المطاب قة ‪ :‬نقل األفكار وفق أضدادها ‪ ،‬ونقل أشكال التناقض في عصره (تناقض طبقي ‪ /‬مذهبي ‪/‬أخالقي‬
‫‪. )..‬‬

‫‪6‬‬
‫_ التّغيير في األلفاظ لغاية مقصودة " التّقيّة السياسيّة " { الح ّ‬
‫ق أسبق إليك منك إليه ‪. }..‬‬
‫‪ ‬حدود أسلوبه األدبي ‪:‬‬
‫_ لغة مشحونة بالعواطف ( تأثّره ببالغة ّ‬
‫الز ّهاد والو ّ‬
‫عاظ ‪. )..‬‬
‫_ تحفّزه المبالغ في رؤية عيوب المجتمع " سخطه على العامّة وكرهه لها وهذا ما حدّ من موضوعيّة أدبه ‪.‬‬
‫طبيعي عن تمثّل قضايا عصره بطريقة ساخرة كما كان يفعل‬ ‫ّ‬ ‫_ جدّيته المبالغ فيها في اإلمتاع " عجز‬
‫الجاحظ ‪.‬‬
‫_ عجزه على صدّ التيّار المسجّع الذي قاده إليه رجال الصّاحب ابن عبّاد‬
‫الزائد من الدّنيا والنّاس‬
‫_ صراحته المفرطة وسرعة غضبه وتبرّ مه ّ‬
‫_ تكلّفه السّجع ( العناية باألشباه والمقاربات اقتداء بأدباء عصره " ضيّق عليه جانب اإلبداع"‬

‫‪ ‬أسلوبه العلمي ‪:‬‬


‫_ إبرازه للحقائق العلمية والتّاريخية في قوله مثال { العُقاب يجلس على البيض ثالثين يوما وكذلك ك ّل طائر‬
‫عظيم الجثّة أمّا متوسّط الجثّة فيجلس عشرين يوما‪.}...‬‬
‫الطاووس يحضن بيضه ثالثين يوما ‪}..‬‬ ‫قدرته على تصحيح الحقائق العلميّة{ ّ‬
‫_ أمانته في نقل التّواريخ { كنت بنيسابور سنة ‪362‬هـ عندما اشتعلت الفتنة بخراسان وتبلبلت دولة آل‬
‫سامان ‪. }..‬‬
‫_ لغة موجزة صريحة ال بالغة فيها وال صورة وعبارات تقوم على التّرتيب ‪.‬‬

‫معهد اآلثار بسبيطلة‬ ‫_ استدالله بقرائن عقليّة دقيقة‬


‫_ ربطه األسباب بالنّتائج { والبليّة مضاعفة من جهة النّظراء في الصّناعة وذلك ألن ّ‬
‫الزمان قد استحال عن‬
‫المعهود ‪.‬‬
‫_ اعتماده على حجج استدالليّة منطقيّة ويرجع ذلك إلى تأثّره بالفلسفة والمنطق وبعلم الكالم في عصره ‪.‬‬
‫_ يخلو هذا األسلوب من التّانّق ومحاولة التّأثير باستخدام الصّور البالغية ّ‬
‫ألن الهدف من وراء ذلك هوّ نقل‬
‫الحقائق العلميّة وال شيء آخر ‪.‬‬
‫_ دخوله مباشرة في الموضوع من غير تطويل وتوشية لفظ مع اإليجاز وعمق الفكرة وهي تدخل ضمن‬
‫أسلوبه العلمي المتأدّب ‪.‬‬
‫_ إخالصه للحقيقة العلميّة وذلك على عدّة مستويّات ‪:‬‬
‫علي بن‬
‫ّ‬ ‫( إسناده ما يرويه إلى أصحابه الحقيقيّين وذكر المصادر التي أخذ منها { هذا آخر ما كتبت عن‬
‫يشك فيها على أساتذته الذّين يثق فيهم‬
‫ّ‬ ‫عيسى الرمّاني بإمالئه ‪ / }..‬عرضه لبعض المسائل التي‬
‫يهش له ولم يقدح فيه ‪ / }..‬اقصاؤه لبعض المسائل العلميّة التّي‬
‫ّ‬ ‫فيقول ‪ {:‬عرضت هذا على أبي حامد فلم‬
‫يبحثها ) ‪.‬‬

‫‪7‬‬

You might also like

  • Le Monde Vécu
    Le Monde Vécu
    Document4 pages
    Le Monde Vécu
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document6 pages
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document4 pages
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document2 pages
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document4 pages
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document1 page
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document1 page
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document1 page
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document1 page
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document4 pages
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet
  • A
    A
    Document4 pages
    A
    benjamin gabriel
    No ratings yet