Professional Documents
Culture Documents
االلتزام والتهميش
إعداد األستاذ :فتحي النصراوي
توطئة :
أديب من أدباء المجالس األدبية ومف ّكر من مف ّكري الحلقات العلمية في القرن الرّ ابع للهجرة حاز شهرة
واسعة في عصر كسدت فيه صناعة األدب و امتُهنت أيّما امتهان مكانة األديب ،كما وقع اإلزراء بمكانة العلم
والعلماء .هوّ ذاك التّوحيدي األديب المتفلسف أو الفيلسوف المتأدّب كما وصلنا عنه من أخبار أو كما قرأناه
في إمتاعه أو مقابساته أو إشاراته اإللهية أو رسائله ...وفي كتب أخرى كتبها لألسف لم يصلنا منها إالّ
القليل النّادر .فأمام انحسار المدّ العروبي للدّولة اإلسالميّة على عهد بني العبّاس وانتقالها إلى عهدة
عوبي الذي ترافق مع انحسار دور الرّ يادة للعنصر العربي في مقابل تم ّكن ّ البويهيين واستفحال المدّ ال ّ
ش
الموالي والمماليك( الفرس واألتراك )..من السيطرة على مقدّرات الدّولة وشؤون اإلدارة والجيش .وما نتج
عن ذلك من هدر لألموال وظلم سياسي واجتماعي وإفساد لمصالح العامّة وقطع لألرزاق ،وتعطيل للفتوحات
الزندقة" وتكالبوإطاحة بالرّ جاالت الصّالحة( وزراء،رجال دين ،علماء ،أدباء )..أو رميها بتهمة العصر" ّ
أغلب الخاصّة على السّلطة وما نتج عن ذلك من صراع سياسي ومذهبي وامتهان ألئمّة العقل والعلم واألدب
.ومحاباة لبعضهم المتقرّ ب المتمسّح باألعتاب على حساب بعضهم المهمّش الملتزم المتعالي من قبل بعض
السّاسة وأرباب النّفوذ والمال ،برز التّوحيدي من خالل كتابه" اإلمتاع والمؤانسة" على األق ّل الذي
استكتبه إيّاه أحد الوزراء العارفين بعلوم اللّغة والمتنفذين في بالط بني بويه ،أديبا حاذقا لصناعة األدب
تعطيل شرائح إجتماعية عريضة عن العمل وانكماشها عن اإلنتاج (إهمال األراضي المقتطعة من
أصحابها/تنفير أهل الصّنائع بفرض ال ّ
ضرائب المجحفة ...
امتهان صغار األدباء والكتّاب وتهميش دورهم وتجويعهم ،قول التّوحيدي على لسان أحد الشعراء يصف
وضع الشعراء في القرن الرّابع فيقول:
إ ْذ بعتُ عرضي ّ
بالطعام سفل األنام
أصبحت من ُ
عمرة في أغلب البيوت فنسج العنكبوت على ك ّل برمة ونبت العشب في ك ّل تنّور}اإلمتاع53/2
{ وح ّل أبو ُ
حتّى أقبل النّاس على عيش الكفاف والنّهب والسّلب وأكل النّخالة .قول التّوحيدي في سياق حديثه البن
ّ
الشط فلمّا نزل الوزير ليركب صاحوا سعدان { سمعت بباب ّ
الطاق قوما يقولون :اجتمع الناس اليوم على
الطعام وتعذّر الكسب وغلبة الفقر..وأنّه أجابهم مع قطوب الوجه وإظهار
وضجّوا وذكروا غالء القوت وعوز ّ
التبرّ م " :بعد لم تأكلوا النّخالة "} اإلمتاع 26/2
ُ
ماقلت هذا...ولم أقابل عامّة جاهلة ضعيفة جائعة بمثل فأنكر ابن سعدان ما سمعه من أبي حيّان وقال{ :وهللا
هذه الكلمة الخشناء }..اإلمتاع 26/2
2
شخصيّة " اإلرتزاق باألدب والتمعّش كان التّوحيدي يحكم على واقع عصره من منظوره الذّاتي وتجربته ال ّ
..أن عيب الغنى أنّه يوّ رث البالدة ،
الطبيعة ّ بالحيلة " ومن ذلك قوله { الحاجة تفتق الحيلة والحيلة تشحذ ّ
وفضيلة الفقر أنّه يبعث الحيلة }..اإلمتاع 86/1-28/3:
ديني متجنّبا اإلصطدام مباشرة باألسباب السّياسية
ّ ولكنّه كان يحاكم عصره في كثير من األحيان من منظور
الزمان قد استحال عن المعهود ،وجفا عن القيام بوظائف الدّيانات وعادات أهل ألن ّ
فيقول في إمتاعه { ّ
المروءات }..اإلمتاع 2/2
عاظ ومجاذيب وسيلتهم األدب وغايتهم اإلرتزاق بشتّى فنون المكر لذلك تحوّ ل األدباء إلى دجّالين وو ّ
شعوذة والحيلة {.مثال ذلك ما ذكر في مقامات بديع ّ
الزمان الهمذاني } وال ّ
_ يتعاطف التّوحيدي مع زمرة األدباء المرفوضين في بالط ابن سعدان ويلوم الوزير والحاشية المقرّ بة على
اإلقتصادي على التّوحيدي فقلّل هناء عيشه فكان رقيق الحال مشرّ د الفكر قلقا مشتّت البال ناكرا
ّ أثّر الوضع
حينا على أهل الحظوة من األدباء وسائر الخاصّة تحاملهم عليه وعلى غيره ساخطا عليهم مستنقصا من
شأنهم في أحايين أخرى مستفظعا تآمرهم وبيعهم لذممهم وخبث أفعالهم فيقول { وما يمرح فيه الجاهلون
والمنقوصون ومن ال يساوي منهم شراك نعله }..مقدّمة المقابسات ص12:
3
شرف والجاه ولكن بقدر ما _ تكشف التّوحيدي في المرحلة أديبا مرتزقا يسعى للتمعّش باألدب أمال في نيل ال ّ
كان األمل عريضا كان اليأس كبيرا ،فسبّب له ذلك انفصاما فكريّا ونفورا من األدب واألدباء أحيانا .
ّ
الشك في ك ّل شيء .قوله { والشك إذا عرض أرسى وأربض }..ث ّم إلى اإلحساس _ ُكفره باإلنسان قاده إلى
ضياع ثم إلى اإلنقطاع عن النّاس ث ّم إلى الفجيعة واإلحساس بالعدم .وخاصّة بعد أن فجع فيبالغربة فال ّ
صديقه أبي الوفاء .
لذلك لعن ّ
الزمان واسودّت الدّنيا في عينه ودفعه اليأس في فترة من فترات التّحسّر على فوات المأمول بعد
المأمول على إحراق كتبه .
نقده السّياسي واإلجتماعي :
{توزع إهتمامه بهذه المسائل تقريبا في ك ّل من اللّيلة }..34/24/20/17/6 :
ّ
نقده السياسي :
خ ّ
صص التوّ حيدي ثالث ليال من كتاب اإلمتاع لالهتمام بالسّياسة ومنها ليلة أفردت للبحث السّياسي المحض
فتميّز فيها بجرأة غير مسبوقة وأمانة عقليّة بالغة وذلك في عرضه وتفسيره الستئثار بني أميّة بالحكم دون
آل البيت مع ما بين األسرتين من تفاوت في الفضل والمروءة والدّين والصّالح .فيقول مخاطبا الوزير ابن
سعدان { كيف تطاول هؤالء القوم إلى هذا األمر مع بعدهم من رحم رسول هللا وقرب بني هاشم منه..؟.
ّ
أنفسهمبذلك؟..إن عجبي من هذا ال ينقضي}... وكيف حدّثتهم
ولكنّه يردّ هذا األمر إلى سببين:
عاب التّوحيدي على ساسة القرن الرابع باستثناء عضد الدّولة تهاونهم وتقصيرهم في تسيير شؤون الدّولة
وتفويضهم األمر كلّه إلى وزرائهم وذاك شأن فخر الدّولة مع وزيره الصّاحب ابن عبّاد بقوله{ وقد أفسده
(أي ابن عباد) ثقة صاحبه به وتعويله عليه وقلّة سماعه من النّاصح فيه}..
نكرانه لما فعله عز الدّولة عندما زحف الروم على ثغور الدولة فلم يأبه بذلك وواصل رحلة صيده بقوله{
ولمّا اشتعلت الثّائرة وصاح النّاس النّفير النّفير ....أضرب السلطان عن هذا الحديث النهماكه في القصف
والعزف ،واعراضه عن المصالح الدينيّة والخيرات السّياسية }..
4
تشهيره بما فعله ابن سعدان نفسه في الّليلة 34عندما استنجدت به الرعيّة طالبة القوت قوله { سمعت بباب
إن الملك ال يكون ملكا إالّ بالرّ عيّة} ّ
الطاق }...فيبدي رأيه على لسان" أبي سليمان المنطقي " قائال { ّ
ولكن لم تكن مواقفه من ابن سعدان تخفي أحيانا مهادنة واضحة وخوفا وتقيّة ،نظرا لطبيعة العصر والحكم
آنذاك .
_ تجنّبه اإلصطدام المباشر مع الوزير إبقاء على عالقته به وطمعا في نيل الحظوة .قوله { أخبرني فإنّي
مكسور . }..
انزعاجه من سعي الخاصّة ( رجال الدّين /الوزراء /الوالّة )...إلى تجهيل العامّة حتّى يسهل انقيادها قوله{
شغب ...وال َج َرم فإنّهم إذا رفّهوا السّفلة يعتادون الكسل والرّ احة ،وإذا جرّ ؤوهم فإنّهم يطلبون ال ّ
شرف وال ّ
سادوا في آخر األمر خرّ بوا بيوت العليّة أهل الفضائل } اإلمتاع 41/2
ّة في عصره :
موقفه من الشعوبي
أمام تصارع األجناس الدّخيلة على الثّقافة العربيّة وإحساسها بهيمنة العنصر العربي على مختلف نواحي
الحياة السياسيّة واإلجتماعيةواإلقتصادية وأمام اإلختالفات العرقية والدينية بين هذه األجناس .قويت
النّزعة الشعوبيّة في القرن الرّ ابع واتّقدت جذوتها .
زاد في هذا الصّراع الشعوبي إعتداد هذه األجناس بميزاتها وفضائلها( اعتزاز الفرس بالسّياسة واألدب،
شجاعة واإلقدام /والعلوم والرّ سوم /والرّ وم بالعلم والحكمة /والهنود بالفكر والرويّة والسّحر /والتّرك بال ّ
والزنوج بالصّبر والكدّ والفرح /والعرب بالنّجدة والقرى والوفاء والجود والخطابة والبيان . )..
ّ
لذلك انخرط التّوحيدي في هذا السّجال الحضاري من خالل ردّه على ما كتبه الجيهاني في كتاب له يذ ّم فيه
العرب ويحقّر من شأنهم بقوله ( ..يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيّات ويتعاورون...ويتهاجون
ويتفاحشون)"...
يفنّد حجج الجيهاني فاعتبر أن العرب رغم جاهليّتهم لم يتزوّ جوا بالمحرم مثلما هوّ الّشأن عند الفرس الذّين
إفادات أسلوبية
أسلوبه األدبي:
_ إكثاره من الجمل اإلسميّة { الكالم ذو جيشان والصّدر ذو غليان }...
_ الجمل الفعلية البسيطة :ملمح من مالمح الرّ صانة في األدب
_ مزج الحكمة باألدب { الدّنيا لذات معدودة فمنها لذّة ساعة ولذّة يوم }..
_ أسلوب األمر في مخاطبة األمير" أسلوب سلطة األدب على السلطة السّياسية
_ اإلكثار من اإلستفهام اإلنكاري" أسلوب الحيرة الفكريّة واألدب الملتزم { أم كيف الصّبر والبالء ممدود أم
ّ
والطريق مسدود ؟}.. كيف التّوجه
_ المساواة بين اللّفظ والمعنى :أسلوب رصانة األدب وحذق الصّناعة فيه { ال منفذ إالّ بهداية هللا و ال نصر
6
_ التّغيير في األلفاظ لغاية مقصودة " التّقيّة السياسيّة " { الح ّ
ق أسبق إليك منك إليه . }..
حدود أسلوبه األدبي :
_ لغة مشحونة بالعواطف ( تأثّره ببالغة ّ
الز ّهاد والو ّ
عاظ . )..
_ تحفّزه المبالغ في رؤية عيوب المجتمع " سخطه على العامّة وكرهه لها وهذا ما حدّ من موضوعيّة أدبه .
طبيعي عن تمثّل قضايا عصره بطريقة ساخرة كما كان يفعل ّ _ جدّيته المبالغ فيها في اإلمتاع " عجز
الجاحظ .
_ عجزه على صدّ التيّار المسجّع الذي قاده إليه رجال الصّاحب ابن عبّاد
الزائد من الدّنيا والنّاس
_ صراحته المفرطة وسرعة غضبه وتبرّ مه ّ
_ تكلّفه السّجع ( العناية باألشباه والمقاربات اقتداء بأدباء عصره " ضيّق عليه جانب اإلبداع"
7